جعل الله عز وجل من أعظم الأسباب لحفظ دينه، وإقامة الحجة على الخلق إلى يوم القيامة الأمور الآتية:
1- الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي تكفل الله تعالى بحفظه من التحريف، والتبديل، والتغيير، فقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
والحفظ المذكور يتناول حفظ الحروف، من أن يزاد فيها أو ينقص، أو تبدل بغيرها، ولذلك نشاهد تصديق ذلك في كثرة المصاحف المتقنة، والمطبوعة في بلدان كثيرة من بلاد العرب والعجم، متباعدة الأطراف، والأعداد الهائلة من دور القرآن الكريم في أنحاء المعمورة، والملايين من المسلمين الذين يحفظون كتاب الله عز وجل، وهذه كلها من أعظم العلامات على تحقيق مراد الله سبحانه في حفظ كتابه وصيانته.
ولذلك نجد الطفل الحافظ لكتاب الله عز وجل يدرك خطأ القارئ إذا أخطأ في حرف من كلام الله تعالى.
كما يتناول الحفظ أيضاً الحفظ المعنوي، وهو حفظه من تحريف معانيه، بحيث يفسَّر على غير مراد الله عز وجل، وذلك بما تمليه الأهواء والشهوات، أو الانتصار لنحلة، أو مذهب، أو طريقة، أو رغبة جامحة، أو أوهام وخيالات، أو مصالح دنيوية، أو رغبة في شهرة، أو غير ذلك، فكل هذه وغيرها مما يخرج بالقرآن الكريم عن مقاصده التي أنزل من أجلها، مهما حاول أصحابها أن يلبسوها بلباس الحق، ويزينوا للناس باطلهم بالعبارات المخادعة، فإنّ ذلك لابد أن يتعرى على حقيقته، ولابُدَّ أن يهيء الله عز وجل من يكشف زيف هذا الباطل للناس، ويردهم إلى الجادة، من أهل العلم، أصحاب الوراثة النبوية، مهما طال زمن الباطل أو ظهرت صولته.
ولما كان التشريع حقاً لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يجري الله سبحانه الحق على لسانه، فإنّ الله تعالى أولاً يصطفى من خلقه من يصلح لحمل هذه الرسالة، ليكون الواسطة بين الحق والخلق، ويدعو الناس إلى دين الله عز وجل، بما يؤيده من الآيات، وما يُنزل عليه من الشرائع، وما يجعله في سلوكه قدوة لغيره، بحيث تبرز في سلوكه الكمالات البشرية، فيكون بذلك حجة على المرسَل إليهم، وهنا يكشف الله عز وجل حقيقة الأدعياء، الذين يدّعون ما ليس لهم: من كل كذّاب، ومدّع للنبوةِ وغيرها من المقامات الدينية زوراً وبهتاناً، وقد قال الله عز وجل في شأن رسوله صلى الله عليه وآله سلم: (وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ )[الحاقة:44-46].
وثانياً: جعل الله عز وجل من أعظم الذنوب التي يقترفها العبد: هو أن يتقول متقوِّل على الله بغير علم، وفي ذلك يقول تعالى:
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33].
وقال سبحانه:
(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36].
وقال جل شأنه:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ) [الأنعام:93].
وكذلك ورد الوعيد الشديد في حق من يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»( ).
وهذا الحديث يعتبره أئمة الحديث من الأحاديث المتواترة لكثرة طرقه.
وورد بلفظ: «لا تكذبوا عليَّ فإنه من كذب عليَّ يلج النار»( ).
وبلفظ: «من تقوّل عليَّ ما لم أقل، فليتبوَّأ مقعده من النار»( ).
وبلفظ: «من تعمَّد عليّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار»( ).
وبلفظ: «إنَّ كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»( ).
وبلفظ: «من حدَّث عني بحديث يُرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين»( ).
وروى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، عن مجاهد بن جبر رحمه الله تعالى، قال: «جاء بُشير العدوي إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله، قال رسول الله، وجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال بُشير: يا ابن عباس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: إنّا كنّا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بأسماعنا، فلما ركب الناس الصَّعبة والذلول، لم نأخذ من الناس إلاّ ما نعرف».
وقوله: (لا يأذن لحديثه) أي: لا يسمع له.
وقوله: (الصعبة والذلول) أي: شدائد الأمور، وسهولها.
والمراد: ترك المبالاة بالأمور، والاحتراز في القول والفعل.
وإذا كان قد ورد الوعيد الشديد في حق من يكذب على الله تعالى أو على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ورد الوعيد الشديد كذلك في حق من يردّ الحق الثابت، ويكذب به، استناداً إلى الهوى، والجهل، وخدمة لغرض في نفسه، عندما يكون النص الوارد عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف هواه، أو دعاواه الباطلة، ومما جاء في ذلك قول الله عز وجل:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ)(العنكبوت:68].
فأمّا قبح الكذب على الله تعالى، أو على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الكاذب يسند إلى الله عز وجل، أو إلى رسوله ما لم يقل، وقد يكون هذا الذي افتراه يشتمل على تشريع، أو عقيدة، أو إخبار بغيب، أو غير ذلك مما يتعلق به تكليف في الاعتقاد أو العمل، وهو بهذا قد جعل من نفسه مشرّعاً مع الله عز وجل ورسوله، وأسند إلى نفسه ما هو من الخصائص الربانية، وقد أنكر الله عز وجل على من يُقدم على ذلك في مثل قوله سبحانه:
أ(َمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى:21].
وأمّا عدم قبول ما صحَّ عن الله عز وجل، أو عن رسوله، فهذا عين الكبر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّ المتكبر محروم من دخول الجنة، ففي الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر»، ثم بين الكبر بقوله: «الكبر بَطَر الحق وغمط الناس»( ).
والمراد ببطر الحق: دفعه وعدم قبوله، وغمط الناس: احتقارهم.
ومن رد ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصفه بأنه باطل لكونه لم يوافق هواه، فإنه يدخل في هذا الوعيد، خاصة إذا لم يكن من أهل العلم بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعرفة طرق التصحيح والتضعيف، والجرح والتعديل، وغير ذلك.
وقد حملني على كتابة هذا البيان، ما قرأته في مطوية لشخص يدعى: ناصر محمد اليماني، الذي يدعي فيها أنه "المهدي"، والتي اشتملت على أباطيل، وتحريف لمعاني آيات من كتاب الله تعالى، وتفسيرها حسب هواه، وإنكاره لبعض الأحاديث الصحيحة، وادعائه أموراً من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، وافترائه بأن الله عز وجل يبعث أربعة أنبياء يكونون وزراء له، مما يدل على الاختلال في عقله، أو تسلط الشياطين عليه، وأراد أن يركّب من اسمه "ناصر محمد" دعوى أنه المهدي، ومن غبائه أنه لم يدر أنه يوجد في بني آدم كثير ممن اسمه ناصر محمد، والأمر الأخطر في الأمر أنه يتجرّأ على تفسير بعض الآيات التي وردت في شأن اليوم الآخر، ويدَّعي أنها ستحدث في الدنيا، وينزلها على نفسه، وعلى دعواه وخيالاته، والشباب البريء الذي يبحث عن الحق، إذا لم يكن عنده أساس من العلم يعرف به ما في هذا الكلام من الحق والباطل قد يُخدع، خاصة إذا لم يرجع هؤلاء الشباب إلى أهل العلم، الذين يدلّونهم على الصواب، وهذا قد يوقع في اختلال في عقيدتهم، وإذا اكتشفوا بعد فترة من الزمن أنهم وقعوا في خطأ كبير، فقد يوجد ذلك عندهم ردة فعل، فلا يقبلون من أحد شيئاً حتى لو كان حقّاً، والأصل أن المؤمن الذي يبحث عن الحق، يرجع إلى كلام أهل العلم من الصحابة فَمن بعدهم، وقبل ذلك إلى ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى كلام أئمة التفسير لكلام الله عز وجل، حتى لا يصبح ألعوبة يلعب بعقله وعواطفه كل من هبّ ودب.
وقد يخدعهم هذا المدعي (ناصر محمد) حين يدعو إلى الحوار، وأنا أقول له: أنا مستعد أن أباهلك، ونجعل لعنة الله على الكاذبين، فاتق الله في نفسك وفي الشباب، وفي الجهلة من الناس الذين تخدعهم، قبل أن تلقى جزاءك في الدنيا قبل الآخرة، وينالك خزي عظيم.
ومطويته التي أشرت إليها فيها كثير من الثغرات، ومن السهل الرد عليها، وبيان بطلان ما تحتوي عليه من التدليس والكذب والتحريف، فإذا لم يأخذ بنصيحتي هذه، ويكف عن هذا الهراء، فأضطر إلى تفنيد أباطيله، وفضحها فقرة فقرة، وأبين غروره المقرون بالجهل.
وبالله التوفيق.
رابط البيان
http://www.aldailami.com/details.php?id=111